• رياض عوض باشراحيل
حضرموت والحضارم.. والمحضار
الأحد 12 فبراير 2017 الساعة 23:29
رياض عوض باشراحيل

ينبثق الطموح الإنساني عبر العصور في أي مجتمع من المجتمعات عن رموز كبيرة ، تظل مفخرة للأمم ، وحديث الأجيال . ولكل أمة رموزها الثقافية والإبداعية والفنية التي لعبت أدوارا ريادية مهمة في حياتها ، والشاعر الملحن الفنان حسين أبوبكر المحضار رمزا حضرميا ثقافيا وادبيا وهو ظاهرة شعرية ومدرسة فنية غنائية لها منهجها وصفاتها وخصائصها .. حمل مشعل الفن الملتزم والنقي الهادف فكان طليعة المجددين الذين انطلقوا من أسس تراثية ورؤية عصرية شكلت القاعدة الصلبة لفنه ، ثم تجاوز التراث بعد أن أضاف إليه وطوره فصنع لنفسه ولفن بلاده مكانة يستحقها في واحة الغناء العربي ..
المحضار تنفس الحب والشعر والوطن فرحا وحزنا ، ودرس المحبة دراسة معرفة وصدق وامتزاج ومعايشة ونذر لها حياته واختارها وطنا له طاب العيش فيه ، وجعل أشعاره وأغنياته مدرسة للعاشقين حين ترنم من صميم قلبه وانشد مرددا :
أنا بنفسي درست المحبه
واخترت دار المحبه وطن
بطرح الذري في خير جربه
 يلقي عمل
نوب جردان يلقي عسل
ولأن مشاعر الصبابة والحب لها قوة وسلطة وغلبة على النفس الإنسانية ، ولها سلطان على الوجدان الذي يتجه حيث تتجه ويميل حيث تميل به رياح الحب ونسماته العليلة بعيدا عن أوامر العقل ونواهيه وكوابحه التي لا تلقى لها جواز مرور عند العاشق المحب .. وحول إذعانه لسلطان الحب وذوبانه فيه وكيف تاه في بحره منذ رضاعته وطفولته اطرب المحضار في لحن جميل شجي آسر قائلا :
تهت في الحب من غير رغمي
من عادنا الا رضيع اللبن
لي حكم في المحبه بظلمي
 قط ما عدل
نوب جردان يلقي عسل
اختزل الحب في عبارة ، في جملة ، في كلمة ، اختزالا يختزن الجمال ويمضي به إلى مطارح بعيدة .. فالحب في كلمة يشرق في قوله : " الحب اسرار" .. من قصيدته الغنائية "ياجارنا" التي قال فيها:
ياجارنا ارعى لنا حق الجوار
وخل عتم الود فيما بيننا جاري
لولاك ماحليت في هذي الديار
وانت وكل الناس تعلم أين هي داري
داري تقع في خير ديرة
بين المجاني والخضيرة
تركتها لأجلك وأنا مختار
الحب اسرار
ولفظة "أسرار" بدلالاتها ومضمونها المعنوي تعد الشرط الأول في بقاء الحب نابضا ومشاعره حية متوهجة ، والحفاظ على متانة الارتباط وقوة العلاقة بين المحب والمحبوب ، وصيانة الحب من فساد المتربصين كالوشاة والحساد ومن آثار عاديات الزمن.
وقد وقعت الكلمة "أسرار" في وجدان الشاعر أحمد سالم بامطرف وقع الحجر الذي حرك الماء الساكن فتدفقت قريحته برائعته التي سرى عطرها خليجيا وعربيا "الحب اسرار قال الصدق بومحضار" والتي استلهمها من توصيف المحضار للحب بأحد اهم صفاته وخصائصه.
 اما اختزال الحب في جملة او عبارة فقد جاء في قول شاعرنا الكبير : "الحب مثل البحر تلعب به الرياح" وصدق المحضار في عبارته الشعرية وفي شعرية العبارة ، فرياح الحب وعواصفه التي تهب أحيانا دون مؤشرات ولا سابق إنذار تعبث بعلاقات الصبابة والحب وأوتار القلوب مثلما تعبث الرياح بالبحر. هذه العبارة فيها الإشباع والغنى والدليل القاطع على قدرة المحضار في اختزال الحب في عبارة مثلما اختزله في كلمة.
النزعة إلى الصدق والسمو الى الطهر والعفة في الحب التي نلمسها في أشعاره العاطفية أو الاجتماعية والسياسية تعبير عن سلامة تكوينه النفسي والاجتماعي ، وهي التي تكمن وراء رسالته في الحياة كأب ورب أسرة وقدوة ومصلح اجتماعي .. فهو يسعى لإصلاح غيره ويبذل الجهد وينفق الطاقة والوقت لتحقيق ذلك دون أدنى نفع او مصلحة خاصة به :
نصـحـت بلغت النصــائح لكـن خلي ما انتصح
وأنا من أجله جاي رايح صبحي وليلي والروح
ما لي مـصـالـح فيه لـكــن راجي له الصــلاح
يانود نسنس خـلـنـا من غـثــاء الأيــام نرتــاح
ولاشك فان المشاعر الوجدانية التي عبر عنها المحضار في شعره و فنه لا تخلو في كثير منها من دلالة اجتماعية أو سياسية او وطنية .. فبعد اضطراب الوطن وانتشار أمراض التسلط والفساد و الاستئثار بالثروة والمناصب ومقدرات البلد وفقدان الأمل في وحدة حقيقية صادقة تنهض بالوطن والمواطن اليمني.. صفع المحضار السلطة في رمزية إبداعية وفنية عالية قائلا :
كـل ماصـفـت غيمت ياغيث قبّل
هذي سـحـب مانـبـاها شي تطول
من أجل باشوف خلي حيث ما سار
لما متى في الغداري مانشوف النهار
ونلاحظ هنا وفي الشطر الثالث كيف مزج المحضار بين مضمون مشاعر الحب والمضمون السياسي والاجتماعي والوطني للقصيدة .
لقد ارتوى الناس من إبداعاته وتعلموا على يديه معاني وقيما ومُثُلاً إنسانية عليا تبلورت في مشاعرهم وسلوكهم . تعلمنا من شعره كيف نفرح ونبتسم في أحلك الأيام ، وتحت وطأة أقسى الظروف ، وفي رحاب الابتسام والفرح والترويح عن النفس قال :
ضحك أرجوك وتبسم
ولا تهتم ولا تغتم
وخليها على الباري
سرى يانجمي الساري
أما حول الابتعاد عن الهموم والنأي عن ما يكدر القلب قال :
يا سهران اهدأ ونم
قـلبــك لا تحمله هم
المكتوب واللي انقسم
بايأتيك من حيث كان
تعلمنا من شعره ايضا كيف نعمل بنشاط وجد وكفاح ونجاح ، وكيف نتجاوز الفشل وننتصر على عوامل اليأس ونحقق النجاح في حياتنا .. وفي هذا المضمون قال المحضار :
إذا جديت وظهـرت هذا جاء يفـاخـر وهذا جاء ينافس
وإن غضّيت وصبرت قالوا مامعه مقدره مسكين يائس
منين اليأس مادام نا لي ساق في المشي يحملنا وعرقوب
مكانه جبحكم يا أهل باكرمان فيه العسل ماغبّه النوب
المحضار شاعر مسكون بالحب ، حب المرأة والأسرة والمجتمع الذي عاش فيه ، وحب الوطن والانتماء العميق للتربة والأرض ، يتغنى وهو في ذروة الألم والأسى بربوع الوطن ، باليمن وبحضرموت الوادي والساحل ، بالجبل ، بالريف ، بالقرية ، بالمدينة . في شعره نرى معشوقته حضرموت وفيه نرى الشحر والمكلا وسيؤون وعدن ووادي الحجيرات وجبل شمسان الأشم وجبل ضبضب المرتدي وشاح العز الدائم .
والمحضار القمة الشامخة والمبدع الرائد الذي عكس ثقافته الحضرمية المعاصرة والتراثية في شعره ، وعمق انتمائه ووطنيته ، وقدرته على التأثير الذي لا حدود له في الناس ، والذي شرفته "حضرموت" ومسقط رأسه "الشحر" بالحب والمساندة ورعاية بذرة موهبته ، وبالتشجيع والتبشير بالنجاح والانتشار في بداياته.. فشرف حضرموت والحضارم ووطنه اليمني والعربي بهذا الإنجاز الفني الضخم وهذا الانتشار والشهرة وهذه المكانة العالية في آفاق الشعر والفن العربي.
رحم الله حسين أبوبكر المحضار .

إضافة تعليق
الأسم*
الموضوع*
نص التعليق*