• يوسف أبا الخيل
نقد الذات مفتاح التقدم
الاربعاء 21 ديسمبر 2016 الساعة 22:56
يوسف أبا الخيل

ما إن تصاب إحدى الأمم المتقدمة بأزمة، أو مصيبة، حتى ترتد على ذاتها، لكي تخضعها إلى مشرط الفحص النقدي من جميع جوانبه، لتخرج في النهاية، إما متعافية من أزمتها كليا، وإما قد ازدادت مناعة وقوة من أن تصيبها دائرة من نوع ما أصيبت به. وعلى العكس من ذلك الأمم المتخلفة، كما هي حال عالمنا الثالث، وخاصة منه عالمنا العربي الإسلامي، فما إن تصاب الأمة بنائبة من نوائب الدهر، أو بتسلط دول أم جماعات عليها، حتى ترتد على ذاتها، لا لتفحص مثالبها، وكوامن النقص فيها، بل لتؤكد كمالها وقدسيتها، ومن ثم تهذي بلسان حالها بأنها لم تصب بتلك النازلة، إلا لأن العالم يحسدها، ويجهد نفسه، وأجهزة استخباراته، وعوالمه كلها لكي يتسلط عليها، ويمنعها من المضي قدما في نشر رسالتها؛ وهكذا تتكرر النوازل، وتتراكم الأخطاء، دون أن يكون للذات قدرة على التقدم الحقيقي خطوة واحدة.
من المعلوم لنا نحن المعاصرين أن معرفة الذات لا يمكن أن تتم بالتطابق مع الذات، بل بأخذ مسافة من الذات. وإذا كان ذلك ليس بممكن بالنسبة للأمم القديمة، فإنه اليوم أصبح شعار الأمم المتقدمة، التي لا تتخذ مسافة من ذاتها أيام الأزمات فحسب، بل في كل حين وآن.
ميزة الارتداد على الذات فحصا وتنقيبا، بل وإدانة، أنها تجعل تلك الذات مستعدة على الدوام لمواجهة أي طارئ خارجي. حتى ليمكن تشبيه الذات الاجتماعية بالكائن الحي؛ فكلما الكائن الاجتماعي لديه جهاز مناعة قوي، فإنه قادر على مطاردة كافة الفيروسات والجراثيم والباكتيريا الاجتماعية. ولا يزيد هذا الجهاز قوة ومنعة إلا الاهتمام به، وجعله في مستوى قادر دائما على التصدي للهجمات الخارجية.
ومن أبرز عوامل دفع الجهاز المناعي الاجتماعي ليكون قادرا على حماية الجسم الاجتماعي، نقد الذات، والنظر إليها على أنها مسؤولة عن عوامل التخلف والتقدم، وليس إلقاء التبعات على الآخر، أيا كان هذا الآخر.
ولقد سبق القرآن الكريم كل فلاسفة الاجتماع، وفلاسفة التاريخ، القدماء منهم والمحدثين، في إلقاء تبعات النوازل والنذر والمصائب على الذات وحدها، وإن أصيبت بنذر خارجية، فلن يكون ذلك إلا لأنها كانت غير مهيأة مناعيا لمقاومتها. فلقد جاء في الذكر الحكيم: "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"؛ فلم يقل الله عز وجل هنا إن ما أصابكم إنما هو بسبب تآمر عدوكم عليكم، ولكونكم أمة مقدسة، فلذلك حسدوكم وتعقبوكم، بل قال: إن ذلك من عندكم، وبسبب يمد إلى ذواتكم أنتم. كما قال عز وجل في الآية الأخرى: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ويفسر أبو جعفر بن جرير الطبري هذه الآية بأن الله تعالى لا يغير ما بقوم من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم، حتى يغيروا ما بأنفسهم من ذلك بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض، فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره. وفي الآية الأخرى يقول تعالى: "إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون".
وفي السنة النبوية المتواترة ما يوحي بأثر العوامل الاجتماعية الداخلية على فاعلية المجتمعات وقوتها، أو ضعفها وانهيارها، كما في حديث السفينة الذي جاء فيه شاهد قوي على ذلك، هو قوله صلى الله عليه وسلم: "... فإن تركوهم وما أرادوا، هلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعا".
على المستوى الفلسفي، يمكن القول إن ابن خلدون، هو أول من نظّر لأثر العوامل الداخلية على تفكك وانهيار المجتمعات. بل إنه، أعني ابن خلدون، لم يُعنَ بالعوامل الخارجية فيما يتعلق بانهيار وتفكك المجتمعات، إلا بالقدر الذي تكون فيه تلك العوامل جاهزة لأخذ مساحة لنفسها، بعد أن تكون العوامل الداخلية قد أجهزت على جهاز المناعة الاجتماعي، لتذر الجسم الاجتماعي جاهزا تماما لأي مؤثرات خارجية.
ومن المعاصرين الذين اقتفوا أثر ابن خلدون في إبراز دور العوامل الداخلية في انحطاط الأمم، يأتي المؤرخ البريطاني المشهور (أرنولد توينبي)، الذي كان قد أشاد بابن خلدون وفلسفته في التاريخ، إذ قال عنه، من ضمن ما قال، "إن ابن خلدون قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ، هي بلا مراء أعظمُ عمل من نوعه ابتدعه عقل في أي مكان أو زمان". فلقد أكد هذا المؤرخ على أن العوامل الخارجية ليست إلا نتيجة مباشرة للعوامل الداخلية التي هي الأساس في تهيئة الأجواء للتدخلات الأجنبية.
ويشرح مؤلف كتاب (في فلسفة التاريخ)، الباحث المغربي الأستاذ (خاليد فؤاد طحطح) نظرية توينبي في تآكل وانهيار الحضارات بفعل عوامل داخلية بقوله: "هكذا يفسر توينبي انهيار الحضارات بتحلل المجتمعات من الداخل قبل أن يأتيها غزو من الخارج ليجهز عليها؛ ذلك أن الغزو الخارجي في مثل هذه الحالة يمثل الضربة القاضية في مجتمع يلفظ أنفاسه الأخيرة. لذا يمكن القول إن أي حضارة من الحضارات، أو دولة من الدول، لا يمكن أن تنهار من الخارج، دون أن تكون قد تآكلت من الداخل، إذ لا يمكن بحال من الأحوال قهر أي إمبراطورية من الخارج، إذا لم تكن قد انتحرت".
أبرز مظاهر التآكل الداخلي الذي ينتاب اليوم العالم العربي الإسلامي ما يتصل بالصراع الطائفي الذي هو عنوان المرحلة الحالية. يُقتل العشرات يوميا، ويُدفن مثلهم وهم أحياء، وتهدم البيوت على ساكنيها، وتحرق المراكب وتباد الزروع، وتسبى الذراري، وتباد الحياة لحساب صراع طائفي يمد بصلة إلى رجال تنافسوا سياسيا قبل ما ينيف على ألف من السنين. القاتل يرفع اسم الله تعالى بجانب اسم من يقدسه مذهبيا؛ والمقتول، لو كانت له الغلبة، لكبر الله حين قتله لأخيه مرددا رمزا يلعنه المقتول! فهل للعوامل الخارجية المتحفزة أن تجد تآكلا ونخرا في العظام، أكثر مما هو لدى العرب والمسلمين حتى تستوطن بلادهم بكل قواها؟

*نقلاً عن "الرياض"

إضافة تعليق
الأسم*
الموضوع*
نص التعليق*